التهجير القسري في غزة- سياسة إسرائيلية ممنهجة لتفريغ الأرض

إن ترحيل الفلسطينيين قسرًا من أراضيهم في قطاع غزة لم يكن مجرد نتيجة عارضة للتصعيد العسكري الإسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023. بل كان جزءًا لا يتجزأ من سياسة إسرائيلية ممنهجة ومخططًا له سلفًا بهدف إجبار السكان على النزوح من ديارهم، ومن ثم ترحيلهم قسرًا، وهي سياسة بدأت جذورها منذ الاحتلال عام 1948.
ما يؤكد هذا الاستنتاج هو سلسلة من الإجراءات والتدابير الإسرائيلية المتلاحقة، والخطوات الميدانية التي اتخذتها سلطات الاحتلال، والتي سنستعرضها بتسلسلها الزمني كما جرى تنفيذها على أرض الواقع.
أوامر الإخلاء
في عام 2023، بدأت الخطة الإسرائيلية بشن غارات جوية مكثفة على المناطق السكنية، وتدمير المباني على رؤوس ساكنيها، وارتكاب فظائع يومية تجاوزت كل الخطوط الحمراء. لم يسلم شيء من القصف: المستشفيات، والعيادات، والمنازل، والمؤسسات، والشوارع، وحتى سيارات المدنيين كانت عرضة للهجوم.
بالتوازي مع هذه الأعمال الوحشية، أصدرت سلطات الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب أوامر إخلاء جماعية لسكان شمال قطاع غزة، مطالبة إياهم بالنزوح إلى مناطق وسط وجنوب القطاع عبر ما وصفته بـ "الممرات الآمنة"، والتي لم تكن في الواقع سوى كمائن للموت والاعتقال، بعد أن تم عزل الشمال عن الوسط والجنوب.
عبر منشورات ورسائل نصية ووسائل إعلام إسرائيلية، تلقى السكان تهديدات صريحة، وترافق ذلك مع أفعال إجرامية على أرض الواقع، في مقدمة لسياسة تفريغ ديمغرافي ممنهجة.
وبعد رحيل أغلبية السكان وصمود قلة منهم، استمر جيش الاحتلال في التدمير الشامل للمناطق التي تم إخلاؤها، عبر سلسلة غارات متتالية وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، مما جعل العودة إليها ضربًا من المستحيل، حتى بعد انتهاء العمليات القتالية.
النزوح الداخلي
مع تصاعد وتيرة التهجير، نزح أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى الجنوب، مما أدى إلى اكتظاظ شديد في مناطق مثل مدينة رفح وخان يونس، وسط ظروف إنسانية مزرية.
تم إنشاء آلاف الخيام العشوائية على أراض قاحلة، تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية ومصادر المياه والكهرباء. وارتفعت معدلات انتشار الأمراض بشكل ملحوظ، وسجلت منظمات الأمم المتحدة مئات الوفيات نتيجة البرد القارس أو نقص الغذاء أو انعدام الرعاية الطبية.
هذا الوضع المأساوي لا يمثل مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل هو انعكاس لسياسة مدبرة تهدف إلى حرمان السكان من حقوقهم الأساسية في السكن والعودة، ودفعهم نفسيًا وجسديًا نحو الهجرة القسرية خارج القطاع.
حتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار 2025، وعلى الرغم من السماح بعودة السكان إلى شمال القطاع، لم يتمكن أغلبهم من العودة، وذلك بسبب الدمار الهائل الذي لحق بمنازلهم، بعد تدمير واسع النطاق في مناطق جباليا وبيت حانون والشجاعية والزيتون. وهذا يمثل جزءًا لا يتجزأ من المخطط الإسرائيلي لإحباط أي إمكانية للعودة.
دعوات رسمية للتهجير
منذ بداية العدوان، تصاعدت الدعوات العلنية من مسؤولين سياسيين وعسكريين في إسرائيل، تطالب بتهجير سكان غزة إلى خارج القطاع.
عبّر وزراء ونواب في حكومة الاحتلال عن ضرورة "إعادة توطين سكان غزة في دول أخرى" و"تفكيك القطاع" بشكل كامل، وتم تقديم دراسات واقتراحات جدية لترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى دول أفريقية أو في أمريكا الجنوبية.
لم تكن هذه الدعوات مجرد تصريحات إعلامية عابرة، بل تم نقلها رسميًا إلى بعض الدول المجاورة، وفتحت الحكومة الإسرائيلية قنوات دبلوماسية مع دول مثل قبرص والكونغو وأوغندا، بهدف بحث إمكانية استقبال السكان المهجرين، لكن غالبية هذه الدول رفضت الانخراط في مشروع يحمل في طياته مخاطر سياسية وقانونية جمة.
وصرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بشكل قاطع: "جميع السكان المدنيين في غزة مُلزمون بالمغادرة فورًا. لن تحصلوا على قطرة ماء واحدة أو بطارية واحدة حتى تغادروا المنطقة".
وفي مارس/آذار 2025، أصدر توجيهًا بإعداد خطة تهدف إلى إتاحة "الخروج الطوعي" من غزة، واقترح إنشاء "مدينة إنسانية" على أنقاض مدينة رفح لإيواء النازحين، ولكنه أشار لاحقًا إلى أن "المغادرة لن تكون ممكنة"، وأن الهدف الحقيقي هو تجميع سكان القطاع في تلك المنطقة.
أما وزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، فقد صرح قائلاً: "لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لا كهرباء، ولا ماء، ولا طعام، ولا وقود. كل شيء مغلق تمامًا. نحن نحارب حيوانات بشرية وسنتعامل معهم على هذا الأساس".
وفي السياق ذاته، دعا وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، إلى "تشجيع الهجرة الطوعية"، واعتبرها "الحل الإنساني الصحيح"، بل وصرح في مايو/أيار 2025 بأن تدمير المنازل كفيل بدفع الفلسطينيين إلى الهجرة.
الوزير المتطرف إيتمار بن غفير كرر ذات الدعوة، واعتبر التهجير "الحل الأكثر شرعية"، بينما استخدم قادة آخرون مثل آفي ديختر، وأرييل كالينر، وغاليت ديستل أتباريان، لغة قاسية تذكر بنكبة عام 1948، مطالبين بـ "نكبة جديدة" لتهجير الفلسطينيين.
الوجه الآخر للترحيل القسري
سعت بعض الدوائر الإسرائيلية إلى الترويج لما أسمته "الهجرة الطوعية"، من خلال تقديم "حوافز" مالية أو فرص عمل مغرية في الخارج مقابل مغادرة غزة.
في الظاهر، يبدو هذا الطرح إنسانيًا، ولكنه في جوهره وجه آخر للتهجير القسري المقنع، إذ يُعرض على من فقد كل شيء، من مسكن وأهل وموارد، أن يغادر، في ظل غياب أي خيار آخر للبقاء الكريم.
هذه "الطوعية تحت الإكراه" تُصنف بموجب القانون الدولي على أنها ترحيل قسري، وتمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
ليس نزوحا مؤقتا
عندما يُجبر الفلسطيني على النزوح من بيته ومنطقته تحت وابل من النيران والقصف الجوي والبري، دون ضمانات واضحة للعودة الآمنة، فإن هذا لا يُعتبر "نزوحًا مؤقتًا" أو خيارًا شخصيًا، بل هو تهجير قسري وفقًا للقانون الدولي الإنساني.
منذ بداية الحرب، أُجبر أكثر من 1.9 مليون فلسطيني، أي ما يقارب 85% من سكان القطاع، على ترك منازلهم رغماً عنهم، والنزوح إلى جنوب القطاع في ظل أوضاع إنسانية مأساوية. والعديد منهم نزحوا أكثر من مرة، وفقد بعضهم حياته قبل أن يتمكن من إيجاد مأوى آمن.
تحاول سلطات الاحتلال الادعاء بأن هذه "هجرة طوعية"، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الناس يُطردون من بيوتهم بالقصف العشوائي والتجويع والحصار الشامل، ولا يُمنحون أدنى فرصة للبقاء أو العودة. هذا النوع من النزوح القسري الداخلي ليس إلا مقدمة لتهجير خارجي دائم، وهو ما تؤكده الأحداث السابقة.
رفض عربي للتهجير
كان لموقف كل من جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية وعدد من الدول العربية دور محوري في التصدي لهذا المخطط الخبيث.
حيث أعلنت مصر رفضها التام والقاطع لأي تهجير للفلسطينيين إلى أراضيها في سيناء، معتبرة ذلك "خطًا أحمر" وتهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وبالمثل، أكد الأردن ودول عربية أخرى رفضهم القاطع المشاركة في أي مشروع يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية العادلة من خلال تفريغ قطاع غزة من سكانه.
سلاح التجويع
دأبت قوات الاحتلال على اتباع سياسة التجويع الممنهجة منذ اللحظات الأولى للعدوان، كأداة وحشية لإخضاع المدنيين الأبرياء، وإجبارهم على اتخاذ قرارات غير إنسانية يائسة.
فقد تم إغلاق المعابر الحدودية بشكل كامل، ومُنع دخول المواد الغذائية والمياه النظيفة والأدوية الأساسية، واستُهدفت قوافل المساعدات الإنسانية، وسُيطر بشكل كامل على قنوات التوزيع، حتى بات شبح المجاعة يلوح في الأفق في قطاع غزة المحاصر، وخاصة في المناطق الشمالية المنكوبة.
وأكدت تقارير صادرة عن منظمات الأمم المتحدة أن مئات الآلاف من السكان المدنيين يواجهون مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما توفي أكثر من 550 شخصًا بريئًا أثناء انتظار وصول المساعدات الإنسانية، وكانت الغالبية العظمى منهم من الأطفال والنساء.
هذا الاستخدام الممنهج للتجويع يندرج تحت التعريف القانوني لـ "سلاح الحرب"، وذلك وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة (المادة 54)، ويُعد جريمة حرب بشعة.
المخطط.. سياسة قديمة
منذ ما يزيد على سبعة عقود، كان المخطط الخبيث للتهجير وما يزال أداة ممنهجة في مشروع استعماري إسرائيلي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين واستبدالهم بمجموعات مستوردة من المستوطنين.
فالتهجير القسري لم يبدأ في قطاع غزة، بل هو حجر الزاوية في المشروع الصهيوني منذ بداياته المشؤومة. فقبل إعلان قيام "إسرائيل" في عام 1948، نفذت الميليشيات الصهيونية خطة منظمة ومحكمة لطرد السكان الفلسطينيين الأصليين من مدنهم وقراهم، وارتكبت عشرات المجازر الوحشية لبث الرعب والخوف في قلوب الأهالي ودفعهم قسرًا إلى الفرار.
ووفقًا للأرقام الموثقة والمدعومة بالأدلة القاطعة، فقد دمرت الميليشيات الصهيونية أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية عام 1948، وطُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني إلى خارج حدود ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ "إسرائيل"، ولم يُسمح لهم بالعودة رغم صدور قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يضمن هذا الحق غير القابل للتصرف.
أما من تمكن من البقاء داخل حدود الدولة الجديدة، فقد تم تهجير عشرات الآلاف منهم من قراهم إلى مناطق أخرى، وحُرموا بشكل قاطع من العودة إلى ديارهم الأصلية.
وقد تحول قطاع غزة ذاته إلى ملاذ مؤقت لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين طُردوا قسرًا من مدنهم وقراهم في الجنوب والوسط (مثل بئر السبع، المجدل، الفالوجة، يافا، عسقلان… إلخ). هؤلاء لم يُسمح لهم قط بالعودة إلى أراضيهم، وعاشوا كلاجئين داخل وطنهم، محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية.
ملايين في الشتات
اليوم، يوجد أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون خارج فلسطين المحتلة، ويتوزعون في الأردن، وسوريا، ولبنان وغيرها من مناطق الشتات، وهم محرومون بشكل كامل من حق العودة المقدس. هؤلاء لا تذكرهم إسرائيل إلا كـ "عقبة" في طريق "السلام المزعوم"، بل تسعى جاهدة إلى محو وجودهم نهائيًا، خاصة مع استهداف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تمثل الشاهد القانوني والسياسي على وجودهم كلاجئين.
الاتهامات الزائفة الأخيرة الموجهة للأونروا بـ "الإرهاب"، والمحاولات المستميتة لتفكيكها أو استبدالها بمؤسسات جديدة، ليست بريئة على الإطلاق، فالأونروا ليست مجرد مؤسسة إغاثة إنسانية، بل هي قبل كل شيء رمز لحق العودة واعتراف دولي بأن وجود الفلسطيني في المخيم هو وضع مؤقت، إلى حين عودته القريبة إلى بيته وموطنه الأصلي. وتفكيكها يعني محاولة يائسة لفرض النسيان القسري على هذا الحق التاريخي.
استقدام مهاجرين
إن الهدف النهائي لسلطات الاحتلال لم يتغير قيد أنملة، وهو السيطرة الكاملة على الأرض الفلسطينية، وتفريغها من سكانها الأصليين، وإحلال مستوطنين أجانب مكانهم. حتى يومنا هذا، تستقدم إسرائيل مهاجرين من دول بعيدة لا تربطهم أي صلة تاريخية أو جغرافية بهذه الأرض المباركة، بينما تمنع الفلسطيني المولود في يافا أو المجدل أو القدس من مجرد التفكير في العودة إلى مسقط رأسه.
التهجير القسري ليس مجرد حالة إنسانية مؤلمة، بل هو جريمة مستمرة ضد الإنسانية يجب أن تُواجه بحزم على الصعيد الدولي. وكل خطوة باتجاه نزوح جديد، سواء داخل حدود البلاد أو خارجها، هي جريمة تُضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات الجسيمة التي تستهدف اقتلاع الفلسطيني من جذوره التاريخية.
فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار من يُجبر على الهروب من الموت المحقق تحت القصف العنيف مهاجرًا "طوعيًا".
تُستخدم أدوات عسكرية وإنسانية ونفسية وقانونية وسياسية لخلق بيئة طاردة قاسية تدفع السكان يائسين للمغادرة، وتحويلهم إلى لاجئين جدد في الشتات.
ورغم فشل هذا المشروع الشيطاني حتى الآن بفضل صمود الشعب الفلسطيني العظيم ورفض الدول المجاورة الشقيقة، فإنه لا يزال قائمًا ومستمرًا بأشكال مختلفة.
وهو ما يستدعي تحركًا دوليًا عاجلاً وحاسمًا، على المستويين القانوني والسياسي، لوضع حد لهذا الانتهاك الصارخ لقواعد القانون الدولي، وضمان حق الفلسطينيين الثابت في البقاء والعيش بحرية وكرامة في وطنهم.